رمضان في دول منظمة التعاون الإسلامي

المدن التونسية العتيقة.. مزار العائلات المفضل طيلة أيام شهر رمضان

تونس (يونا/قنا) – تعرف المدن العتيقة في كامل جهات تونس بهدوئها وسكونها التام بعد الساعة العاشرة مساء، حيث تغلق المحلات التجارية والمقاهي أبوابها، وتهدأ حركة السيارات وهدير المحركات بعد يوم طويل من التنقلات بين أماكن العمل والمدارس والأسواق، غير أن الأمر ينقلب مئة وثمانين درجة في شهر رمضان، إذ تسجل الحياة بهذه الأماكن حركة غير مألوفة، وتلقى محلاتها التجارية رواجا لا يقارن ببقية أشهر السنة.

ففي شهر الصيام، تتجمل المدن العتيقة بوشاح من الزينة يكاد يغيب عنها في غيره من الأشهر، وتتركز حركة التونسيين في الفضاءات القريبة من المساجد والجوامع التي تتوسط في غالبيتها المساكن والأسواق القديمة، وتتجمع حولها المحلات التجارية والمقاهي لينبعث بين ثناياها والبنايات التركية والحسينية ومنازل عائلات البايات، حكام تونس على مدى قرنين ونصف، عبق من التاريخ والحضارة لا يكاد يتحسسه الأهالي إلا في أيام رمضان المبارك، وروحانيات قد يفتقدونها في بقية العام لانغماس الناس في الركض وراء قوتهم في “البلاد السوري”، المقصود به الجانب العصري من المدن.

وداخل أسوار الرباطات، المعروفة أيضا بتسميات أخرى لدى التونسيين، من ذلك الحصن والبرج والقصر والمحرس والثغر والقصبة والمسجد أيضا بعد أن تشابكت وظائفه طبقا لتداخل وظائف رواده وما اتصل بنشاط السكان العسكري أو الروحي وارتباط ذلك كله بالنشاط الديني الإسلامي الذي راوح بين جهاد الأعداء ومجاهدة النفس الأمارة بالسوء، والمنتشرة في مناطق كثيرة بالبلاد، لاسيما تونس العاصمة، والقيروان، والحمامات، وسوسة، والمنستير، والمهدية، وصفاقس، والكاف، وقفصة وغيرها، تولد حياة جديدة لا يألفها التونسيون كثيرا في بقية أشهر العام، وقد تمتد ساعاتها حتى موعد رفع أذان الفجر، والإعلان عن بداية يوم جديد.

لذلك يعمل أغلب الحرفيين بالمدن العتيقة على تزيين الأزقة الضيقة المؤدية إلى محلاتهم بفوانيس، فيما يجهز أصحاب المقاهي مقاهيهم استعدادا لاستقبال الزوار الحريصين على ارتياد هذه الأماكن بكثافة في شهر الصيام، في جلسات ومواعيد عائلية تجمع الكبير والصغير على حد سواء، لاسترجاع ذكريات أزقة تلك المدن التي تضم عدة معالم تاريخية ودينية وحضارية.

ففي تونس العاصمة، تقف المدينة القديمة شاهدا على تاريخ “البلاد العربي”، وهو الاسم المتعارف عليه لدى التونسيين للمكان، ويأتي في أعلى ربوة فيها جامع الزيتونة المعمور الذي يقصده غالبية المصلين لأداء الصلوات الخمس فيه جماعة، ومنه ينطلقون في جولات ترفيهية داخل المحلات المحيطة به، أو يقصدون المقاهي العتيقة المفعمة بروح تركية أو أندلسية أو مشرقية، لتمضية الوقت حتى حلول موعد السحور.

ورغم التشابه بين أشكال بناء ومعمار هذه المدن، التي تميزها أنهجها وأزقتها المسقوفة والضيقة المخصصة للمترجلين والرافضة لمرور العربات والمحركات، يتميز المعمار فيها بالتفرد والتنوع في الآن ذاته، حيث يجد الزائر نقوشا ورسوما وزينة على الجدران تؤرخ الماضي، وتضع ندوبا خطها الزمن على مباني بات كثير منها آيلا للسقوط.

وبين أرجاء المدن العتيقة، تنتشر محلات بيع الصناعات التقليدية وورش الحرفيين من صناع “الجبة” و”الشاشية” و”البلغة” وكل ما يتعلق باللباس التونسي التقليدي، ويعود أغلبها إلى القرن التاسع عشر؛ لذا ارتبطت تلك الأماكن بكل ما هو قديم، ما أكسبها رونقا خاصا جعل منها مزارا للسياح والتونسيين على حد سواء، خصوصا في شهر رمضان.

ويعود تأسيس المدينة العتيقة لتونس على يد القائد الإسلامي حسان بن النعمان عام 82 هـ 701 م على أنقاض قرية قديمة تسمى “ترشيش”، وتحيط بجامع الزيتونة الذي يعد أقدم المعالم الدينية بالعاصمة تونس، وقد أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو على قائمتها للتراث العالمي سنة 1979، وتحيط بها أبواب عدة، من ذلك “باب بنات” و”باب العلوج” غربا، و”باب الجديد” و”باب الفلة” و”باب دزيرة” جنوبا، و”باب سويقة” و”باب سعدون” و”باب العسل” شمالا، و”باب بحر” شرقا، وفيها قصور ملكية تحول بعضها إلى متاحف أو مقاهي أو مطاعم.

كما تضم تلك المدينة 40 سوقا قديمة، على غرار سوق النحاس، وسوق البلاغجية، وسوق العطارين، وسوق الصباغين، وسوق السراجين، وسوق الشواشين، وسوق البركة لبيع الذهب والحلي، كما تنتشر فيها محلات بيع الملابس الجاهزة، لذا تنتعش التجارة في تلك المدينة طوال شهر رمضان لتبلغ ذروتها قبل أيام قليلة من عيد الفطر المبارك.

وحافظ أغلب الحرفيين في تلك الأسواق على هوية محلاتهم، حيث يشترط ترميمها أو إدخال أي تغيير عليها الحصول على موافقات من وكالة المحافظة على التراث ولجنة صيانة المدينة (هيئتان حكوميتان) حفاظا على طابعها المعماري ورونقها القديم، فحتى تغيير البلاط القديم والأبواب والنوافذ الخشبية ذات النقوش القديمة والديكور القديم الذي يتجاوز عمر بعضه المئة عام، يحتاج موافقات رسمية، ما ساعد المدينة العتيقة على الحفاظ على طابعها القديم الذي يعود إلى قرون خلت.

وعن هذه الفضاءات، يقول عامل بأحد المقاهي بالمدينة العتيقة لوكالة الأنباء القطرية “قنا” إن عمر المقهى الذي يعمل به يفوق المائة والعشرين عاما، ومع ذلك يستقبل المقهى يوميا الزوار وحتى السياح. ويتم ترميمه باستمرار دون تشويه معالمه وهويته القديمة، وسط حرص وكالة المحافظة على التراث (وكالة حكومية) على ضرورة محافظة المالكين على الديكور القديم والمفارش القديمة باستعمال “المرقوم” وهو فراش قديم يصنع من الصوف، مع تقديم القهوة في فناجين قديمة وطبق نحاسي أو فضي حسب العادات التونسية. كما يتم إعدادها على الفحم، ولا يغيب عن الأجواء الموسيقى الطربية القديمة سواء التونسية أو العربية، لذا تشهد المقاهي اكتظاظا كبيرا طيلة ليالي شهر رمضان، وتستقبل كل ليلة عددا كبيرا من الزبائن حتى ساعات الفجر.

من جهته، يؤكد زين العابدين بالحارث رئيس جمعية تراثنا، لوكالة الأنباء القطرية “قنا”، أن المدن العتيقة في تونس وصفاقس وسوسة ونابل وغيرها تتميز بطابع معماري قديم، وأزقتها ومقاهيها القديمة تجعلها أبرز وجهة لدى التونسيين طيلة شهر رمضان، إذ تشهد حركة كبيرة طوال ليالي هذا الشهر لأن التونسيين يحنون إلى كل ما هو قديم وإلى أجواء الحياة السابقة، وإحياء التقاليد ويكثر فيها بيع الحلويات والذهب والملابس استعدادا لعيد الفطر.

ويشير رئيس جمعية تراثنا إلى أن سكان وتجار المدن العتيقة في تونس حافظوا على كل شيء قديم. وتزدهر الصناعات التقليدية فيها بشكل كبير، إضافة إلى بيع مختلف أنواع الحلويات التقليدية التونسية مثل “المقروض” و”الغريبة” و”الصمصة” وغيرها من الحلويات التي تشهد إقبالا كبيرا.

كما يشير رئيس الجمعية إلى اكتظاظ المدن العتيقة أيضا بالمصلين الذين يتوافدون على المساجد التاريخية لأداء صلاة التراويح. ويرتدي أغلب المصلين خلال شهر رمضان الزي التقليدي التونسي كالجبة والشاشية والبلغة لإحياء كل شيء قديم. كما تشهد أزقة تلك المدن حركة مغايرة تماما عن الأيام العادية خاصة وأنه يقع تنظيم مهرجان المدينة، حيث تقام الحفلات خصوصا في النصف الثاني من الشهر.

وتقام الحفلات في قصور الملوك القدامى أو في الأزقة والمقاهي القديمة، كما تقام في أزقة المدينة القديمة مواكب دينية ومجالس للذكر، لتشهد الحركة ذروتها خصوصا خلال الأسبوع الأخير من شهر رمضان استعدادا لعيد الفطر، وبعدها تستيعد أزقة المكان هدوءها السابق، وسباتها حتى تنفض الغبار عنها مرة أخرى في رمضان من العام المقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى