جدة (يونا) – في حوار ثريّ حمل رؤى استراتيجية حول المستقبل، حلّ الدكتور سالم بن محمد المالك، المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، ضيفاً على الحلقة الثالثة من بودكاست “تواصل” الذي يقدمه الإعلامي أسامة العشماوي وينتجه مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري.
واستعرض المالك خلال اللقاء قراءة معمّقة للتحولات الدولية في عصر الرقمنة، والدور المتنامي للشباب، وأهمية الثقافة والتعليم والدبلوماسية الحضارية في إعادة صياغة العلاقات بين الأمم، وأكد المالك أن الشباب يمثّلون القوة الحقيقية في المشهد الدولي اليوم، ليس فقط لكونهم يشكلون نصف سكان العالم، بل لأن 70% من مستخدمي الإنترنت هم من الشباب تحت سن الثلاثين، مضيفاً أن الفضاء الرقمي أصبح مجال نفوذهم الطبيعي، حيث ينتجون خطاباً جديداً ويعيدون رسم خريطة التواصل الإنساني والثقافي على مستوى العالم.
التعليم بوصلة تقدم الأمم: نحو تبني التعلم مدى الحياة
وفي أول محاور الحلقة، ركز المالك في حديثه على محورية التعليم في بناء الدول، مؤكداً أنه البوصلة التي تمنع الأمم من الانحدار نحو “التراجع الحضاري”، مشيراً إلى بعض الدراسات الدولية المؤكدة أن كل سنة إضافية في التعليم تسهم في رفع متوسط الدخل بنحو 10% وتقلل نسب النزاعات والفقر، موضحاً أن بناء الدول القوية يتطلب الانتقال من نمط “التعليم التلقيني” إلى مفهوم “التعلم مدى الحياة”، وتطوير المناهج وتأهيل المعلمين لمواكبة التحولات السريعة. ونوه أنه بات للتعليم دور متقدم في الدبلوماسية الثقافية، خصوصاً في تمكين الشباب في العالم الإسلامي عبر التبادل الطلابي وبرامج المنظمات الدولية، وعلى رأسها الإيسيسكو، التي تعمل على بناء شبكة معرفية مشتركة تعزز التقارب الحضاري.
الشباب والدبلوماسية الرقمية: تحدي الهوية في عصر المعرفة المفتوحة
وأوضح المدير العام للإيسيسكو أن الشباب اليوم يواجهون تحدياً وجودياً في ظل عالم مفتوح تتدفق فيه المعلومات بلا توقف، وسط تصاعد تسييس المعرفة والاستقطاب الإعلامي، ودعا الدول إلى التعامل مع الشباب ليس كمتلقين، بل كقادة وصنّاع سياسات، خصوصاً أنهم يديرون غالبية الشركات الناشئة التكنولوجية. وأكد أن مستقبل الدول بات مرهوناً بقدرتها على تمكين الشباب علمياً وثقافياً وتقنياً، مع الحفاظ في الوقت ذاته على الهوية الوطنية والقيم المشتركة، لضمان تمثيل حضاري متزن على منصات التواصل الاجتماعي التي تحوّلت إلى فضاء جديد للدبلوماسية الرقمية.
الإيسيسكو والدبلوماسية الحضارية: رؤية جديدة لتحقيق التفاهم بين الشعوب
وأكد الدكتور سالم أن القوة الناعمة أصبحت اليوم محوراً أساسياً في تعزيز مكانة الدول، موضحاً أن نحو 70% من احترام الدول لبعضها يرتبط بعمقها الثقافي وقدرتها على تقديم سرديتها الحضارية للعالم، مستعرضا جهود الإيسيسكو في تبنيها نموذج “الدبلوماسية الحضارية” الذي يدمج بين مختلف الدبلوماسيات المتعددة ضمن رؤية شاملة تقوم على فهم الآخر، وترسيخ الهوية الوطنية، واستخدام الفنون والموروث الثقافي بوصفها أدوات استراتيجية تسهم في تعزيز التفاهم والتعاون بين الثقافات ودعم الأمن المستدام وهو ما ينسجم مع التوجّهات العالمية الرامية إلى ترسيخ “ثقافة السلام” باعتبارها مساراً للتنمية الشاملة ووسيلة لتقوية الروابط الإنسانية في عالم تتزايد فيه التحديات المشتركة.
النخب الفكرية في زمن التشتت الرقمي
وفي معرض حديثه عن الأدوار المنوطة بالنخب الفكرية، أشار المالك إلى التحديات الكبيرة التي تواجه النخب الفكرية اليوم في ظل سطحية المحتوى الرقمي وتشتت المعلومات، وقال إن المعركة الحقيقية هي “معركة التوازن” بين الأصالة والانفتاح، وبين الحفاظ على الجذور الوطنية ومواكبة موجات التغيير، مؤكدا أن أخطر ما يواجه المجتمعات اليوم هو تسييس المعرفة وتوسع الاستقطاب الإعلامي، مما يستوجب دوراً أكبر للنخب في توجيه الشباب وحمايتهم من الانزلاق نحو فقدان الهوية.
سفراء الإيسيسكو للسلام .. تمكين الشباب لترسيخ قيم الحوار الحضاري
وحول ضرورة تحقيق قيمة السلام في المجتمعات، أكد الدكتور سالم المالك أن مبادرة الإيسيسكو “سفراء السلام 360 درجة” تمثل نموذجاً رائداً في تعزيز الحوار الحضاري والتفاهم بين الثقافات، مشيراً إلى أن البرنامج يركز على تمكين الشباب من اكتساب مهارات التعايش والتواصل المؤثر، وفهم القيم الإنسانية المشتركة، واحترام الكرامة الإنسانية كأساس للتفاعل الحضاري البناء، ويخرج المشاركون من المبادرة وهم مؤهلون لإدارة الحوار، ونقل رسائل التسامح والسلام، والاستفادة من الأدوات الثقافية والفنية لتقريب الشعوب وبناء جسور التفاهم.
ويذكر أن الإيسيسكو حصلت مؤخراً على جائزة مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري في دورتها الخامسة لعام 2025م، عن فئة المنظمات والمؤسسات الدولية غير الربحية، تقديراً لمبادرتها “السلام 360 درجة”، وتعد هذه المبادرة جزءا من جهود المنظمة الهادفة إلى ترسيخ ثقافة السلام، ودعم الأمن الإنساني المستدام، وصياغة جيل من القادة الشباب القادرين على تمثيل حضارة العالم الإسلامي على المستوى العالمي بطريقة حضارية ومسؤولة.
السعودية: نموذج رائد في المشاركة المؤثرة على المستوى الدولي
واختتم الدكتور سالم حديثه بتثمين ما تحققه المملكة العربية السعودية من تعزيز حضورها على الساحة الدولية من خلال مشاريع ومبادرات رائدة تهدف إلى تعزيز التفاهم بين الشعوب وترسيخ قيم التعاون والعيش المشترك، وأشار إلى أهمية رؤية 2030 التي تمكّن المملكة من إطلاق عشرات البرامج التعليمية والثقافية والريادية، والتي تستهدف تمكين الشباب وتطوير مهاراتهم في التواصل مع مختلف الثقافات، وصياغة صورة إيجابية عن المملكة وشعبها أمام العالم.
ولفت المالك إلى أن المملكة تسعى في المستقبل إلى استثمار الفعاليات الدولية الكبرى والمنتديات العالمية لإشراك الأجيال الجديدة في تبادل الخبرات وبناء شبكات تواصل واسعة، بما يضمن تمثيل المملكة بصورة حضارية وفاعلة، وإعداد جيل قادر على نقل قيم الاحترام والتفاهم عبر مختلف البيئات الثقافية والاجتماعية.
(انتهى)



