تقارير وحواراترمضان في دول منظمة التعاون الإسلامي

رمضان في السودان.. شهر العبادة والتواصل الاجتماعي والتقاليد العريقة

الخرطوم (سونا_ يونا ) – “رمضان جاءنا بخيره” هكذا يقول أهلنا في السودان عندما يسألهم أحد المعارف عن أحوالهم في رمضان، لأن ذلك ما يحدث فعلاً، إذ تتنوع الخيرات وتعم البركات في هذا الشهر الكريم وهو كريم بالمعنى الحرفي.
وفي رمضان تظهر أصالة وشهامة الشعب السوداني فيقوم المتطوعون بتوزيع الحقائب الرمضانية، ويضعون فيها جل ما يخص إفطار الصائم من سكر ودقيق وزيت وتمور وغيرها من الطيبات.
ويبدأ الأهل بتفقد أحبائهم من المساكين والمتعسرين، يغمرونهم بالهدايا ويحيطونهم بالمحبة والاهتمام، وفي ذلك بالتأكيد تطبيق لمعاني الرحمة والتكافل، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” ونحسب أهل السودان مثل ذلك الجسد.

يبدأ التجهيز لشهر رمضان منذ رجب، عندما تجفف النساء اللحم ويطلق عليه (الشرموط) وله حساء لذيذ يسمى “ملاح الشرموط” يحتوي على اللحم المجفف والبصل والشوربة وبعض البهارات. كما يجفف البصل أيضا ليعد على نوعين (محمر) يغلى في الزيت ولونه احمر يميل إلى “البني الفاتح” وبصل مجفف عادي، يقطع قطعاً صغيرة ويوضع تحت الشمس حتى يجف تماماً.

ومن اجمل تقاليد رمضان في السودان ما يسمى بـ(عواسة الآبري) وهو نوعين: آبري أبيض وآبري أحمر “حلومر” (وهو عبارة عن مشروب رمضاني بنكهة خاصة مميزة يطلق عليه أحيانا “حلومر” لأن فيه لذعة مرة وطعم حلو في ذات الوقت، وأظن أن هذا طعم الحياة وتقلبها بين حلوها ومرها راضين بقضاء الله عز وجل).

تبدأ خطوات إعداد ” الحلومر ” بتجهيز الدقيق حيث تزرع النساء الذرة أو الدخن أو الفتريتة في طقوس تقليدية فتوضع الحبوب في جوال و ترش بالماء كل يوم حتى تخرج منها براعم تشبه براعم النبات في مرحلة النمو وبعدها تطحن ويحضر منها العجين “للعواسة ” أي مرحلة الطهي.

وفي يوم “العواسة” تجتمع نساء الحي وممن تمت دعوتهن من أقرباء صاحبة الدار للاحتفال بهذا اليوم التقليدي، حيث يتم تجهيز العجين الذي يحتوي على الدقيق والبهارات من زنجبيل وقرفة، بالإضافة إلى ما يفضله أصحاب البيت من نكهات، ثم يخمر العجين وتبدأ (عواسته على صاج حديد موضوع على اللهب، تتأجج ناره المتقدة )، ثم تفوح رائحة الآبري ليعرف جميع من في الحي بأن أهل فلانة يجهزون مشروب رمضان المفضل.

وبعد جفاف طبقات الآبري يتم طيها إلى مربعات صغيرة قليلا لتوزع على الأهل والجيران، يأخذ كل منهم نصيبه الذي كتبه الله له، وما تبقى يدخره أصحاب المنزل. ومن الأغذية المشهورة التي يبدأ تجهيزها قبل الشهر الفضيل ما يسمى ب(الرقاق) وهو أكلة السحور المفضلة، عبارة عن رقائق حلوة تؤكل بالحليب تشبه الكورنفليكس لا يستغني عنها أي بيت سوداني بسبب سهولة تحضيرها ولذتها وفوائدها الغذائية الكثيرة.
تشبه عواسة الرقاق عواسة الآبري ولكن تختلف طريقة التحضير إذ أن عجينة الرقاق تحتوي على الحليب والدقيق والكاسترد وبعض السكر .

تقول سلمى رمضان أخصائية التغذية بمستشفى السلاح الطبي بام درمان: إن الأطعمة السودانية غنية بالعناصر الغذائية المتكاملة إذ تحتوي مائدة رمضان على كل ما يفيد الجسم لتحمل الصيام وآداء صلاة القيام، فالسلطة المكونة من الخضار أو الفواكه المشكلة مليئة بالفيتامينات والعصيدة التي تحتوي على مواد الطاقة والكربوهيدريتات والنشويات وملاح العصيدة الغني بالكالسيوم والبروتين.

بعد تجهيز كل ما يختص بالأغذية تقوم صاحبة المنزل بتفقد أواني البيت لتكتب ما ينقصها من أواني ثم تذهب للتسوق وتشتري كل ما تحتاجه من لوازم حتى يصبح مطبخها جاهزا لتحضير الإفطار وكل إمرأة سودانية تنوي في داخلها ” من أفطر صائما فله اجر صائم “.

ويا له من أجر عظيم إذ تخرج (صينيتها ) محملة بما لذ وطاب يأخذها زوجها ألى الفسحات خارج البيت حيث يجتمع الجيران ويتبادلون الاكل والعصائر “فرحين بما أتاهم الله من فضله “). وعند عودة الزوج من الخارج تتفقد الزوجة أوانيها لتتهلل أساريرها عندما تجدها فارغة، وتلك علامة تدل على أنَّ الجيران استحسنوا طعامها فأكلوه
وتغضب إذا عاد الطعام كما هو، وهذه علامة تخبرها أن تعيد النظر في طبيخها مرة أخرى!

ومن الطرائف الرمضانية التي يتندر بها كل شهر ما ذكر أن إحدى ربات البيوت استيقظت قبل غروب الشمس بقليل ولم تجد في ثلاجتها سوى “العدس” فملأت عدداً من الصحون بذلك “العدس” وأرسلته لجاراتها لتأتيها الصحون مليئة بما لذ وطاب من مأكولات، وهذا يبين قيمة التكافل والتراحم بين الأسر السودانية إذ اعتادت ربات البيوت ألا يرسلن الأواني فارغة، عرفاناً لمن أرسلت تذقهن بعضا من طبيخها، ويعد من العيب إرجاع الإناء فارغاً.

ولا ننسى نصيب الأطفال في هذا الشهر المبارك إذا لا تكتمل الفرحة إلا بهم ولا يحلو إفطار إلا بوجودهم، يغمرون الكبار بضحكاتهم ويسعد الأجداد بتحلقهم حولهم. توكل مهمة اعداد الفسحات لإفطار رمضان للأطفال حيث يجمعون الحجارة ويرصونها على شكل مصلى صغير يمشون وسطه بالرمل حتى يتسنى للمصلين والصائمين الجلوس بكل أريحية فيه.

هنالك أيضاً بعض التقاليد المرتبطة بالأطفال نذكر منها ما يسمى ب”الرحيميت” أو “الرحمتات ” وهي مشتقة من الرحمة وتعني باللهجة السودانية “رحمة تأتي للموتى” وحتى الأحياء يحصدون من ثمرات هذه الرحمة إذ يتم التراحم والتزاور والأنس الجميل فيما بينهم، كما ينعم الأطفال باللعب والسمر إلى ساعات متأخرة من الليل. ومن الألعاب المرتبطة برمضان لعبة (حماديرا / حماديره) وهي لعبة (توازن وتحمل) قديمة من موروثنا الكوشي في وادي النيل حيث يقوم اللاعبون بالدوران اما في اتجاه عقارب الساعة أو عكسها وهم يغنون.

جميعنا يعلم أنَّ شباب السودان لا زال يناضل من أجل حكومة مدنية مستقلة ومن ضمن البرامج الثورية التي يشهدها رمضان ” إفطار الشهداء” إذ تقوم أسر الشهداء بتأبين أبنائهم الذين قدموا أرواحهم فداءا للوطن ويجتمع أصدقاؤهم وأحباؤهم يقرأون القرآن ويوزعون الصدقات هدية لأرواحهم.

ومع نهايات الشهر الفضيل ينادي منادي الإيمان أن حي على الفلاح فتتهيأ الأرواح لليلة القدر وتمتلئ القلوب بالأمنيات والدعوات ويخرج الجميع رجالا ونساء إلى المسجد لآداء صلاة التهجد يبتهلون لله عز وجل أن يجعلهم من عتقاء شهره المبارك. ثم تهل بشريات العيد ولكن تلك تقاليد أخرى في بلد متعدد الثقافات والحضارات.

(انتهى)

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى