الثقافة والفنون

النقد الأدبي عند ابن رشد

النقد الأدبي عند ابن رشد

 (Averroes) (1126-1198)

الكاتب: M.A.R. Habib

ترجمة: الزبير عبدالله الأنصاري

عُرِف الفيلسوفُ والفقيهُ المسلمُ ابن رشد أساساً بسبب شروحاتِه العظيمة على أرسطو Aristotle التي تركت أثرًا عميقًا على الغرب خلال العصور الوسطى، حيث حظي بتقدير واسع في أوساط العلماء المسيحيين واليهود، وتُرْجِمَتْ جميعُ شروحاته على أعمال أرسطو الكبيرة تقريبًا إلى اللاتينية، كما تُرْجِمَتْ بعضُها إلى العبرية. صنَّف ابنُ رشد أيضًا شروحاتٍ مطوَّلة على جمهورية أفلاطون Plato، وإيساغوجي فرفوريوس Porphyry، وحاول في تفسيره لأرسطو إزالة عناصر الأفلاطونية الجديدة neo-Platonism التي شوَّهت حتى ذلك الحين القراءات العربية للفيلسوف اليوناني. ويمكن القول إنه من خلال ابن رشد نُقِلَتْ النصوصُ الرئيسية لمدوَّنة أرسطو إلى أوروبا.

لقد كان التوفيقُ ما بين الفلسفة والدين، والعقل والوحي، هو الهاجس المركزي لبعض أطروحات ابن رشد الفلسفية مثل “تهافت التهافت” (الذي حاول من خلاله نقض هجوم الغزالي على الفلسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة”)، فبينما يؤمن ابن رشد عمومًا بأنَّ الفلسفة تفضي إلى العلم اليقيني، إلا أنَّه في الوقت نفسه يجادل ليس من أجل دينٍ قائمٍ على العقل الخالص وإنما من أجل فهمٍ فلسفي وعقلي لحقائق الدين الذي جاء به الوحي. المفارقة هنا هي أنَّ التفسيراتِ الخاطئةَ لتعاليم ابن رشد من قبل بعض الرشديين اللاتينيين Averroists – الذين نظروا إليه باعتباره مؤمناً بتنافي العقل والإيمان- هي التي استثارت توما الأكويني Aquinas للرد والسعي إلى التقريب بين هذين المجالين. ومن المفارقة أيضًا، بل ومن المؤسف للتاريخ اللاحق للفكر الإسلامي أنَّ تأثيرَ ابن رشد في العالم الإسلامي كان أقلَّ إلى حدٍ كبير مقارنةً بتأثيره في أوروبا المسيحية؛ لقد أخفق ابنُ رشد في إقناع العلماء والمتكلمين المسلمين بانسجام الفلسفة مع تصوراتهم الدينية.

كان ابنُ رشد المولود في عائلة من الفقهاء مهيئًا لأن يكون فقيهًا، وقد أصبح قاضيًا في إشبيلية وقرطبة، ثم في عام 1153 أو نحو ذلك التاريخ، قدَّمه صديقُه الفيلسوف ابنُ طفيل إلى أحد أمراء دولة الموحِّدين. ومما يروى أنَّ ابنَ رشد نهض إلى شرح أعمال الفلاسفة اليونانيين بعدما سأله هذا الأمير عمَّا إذا كان الفلاسفة يعدُّون العالم محدثًا أم قديمًا.

النصُّ الرُّشدي محلُّ البحث هنا هو شرحه على كتاب الشعر لأرسطو الذي ترجمه إلى اللاتينية عام 1255 هرمان الدلماطي Hermannus Alemannus، وهو أسقفٌ كان يعيش في طليطلة Toledo، وقد طبعت هذه الترجمة في عام 1481 لتكون بذلك أولَ نسخة من أعمال أرسطو تنشر في عصر النهضة Renaissance. لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على وفاة أرسطو حتى اختفى كتابه عن الشعر تماماً، وإلى أواخر الفترة الكلاسيكية وبدايات العصور الوسطى، لم يكن هذا الكتاب معروفًا إلا من خلال المصادر الوسيطة مثل تلميذ أرسطو ثاوفرسطس Theophrastus. وترجع المخطوطةُ الأقدم المتبقية في الغرب إلى القرن الحادي عشر، لكن هذه النسخة لم تكن هي التي أثَّرت على غرب العصور الوسطى، فالنسخة التي كان لها ذلك التأثير في تلك الحقبة هي نسخة عربية، عبارة عن ترجمة في القرن العاشر لمخطوطة يونانية ترجع إلى ما قبل عام 700. هذه النسخة تختلف بشكل كبير عن النسخة الغربية، وهي مسؤولة جزئيًا عن الصورة المحوَّرة لأفكار أرسطو المنقولة عبر شرح ابن رشد (Hardison, MLC, 81-82).

وكما أشرنا في موضع آخر، فإنَّ الفلاسفة العرب مثل الفارابي (الذي تُرجِم كتابه “إحصاء العلوم” مرتين إلى اللاتينية خلال القرن الثاني عشر الميلادي)، تأسَّوا بالمتأخرين من الشرَّاح اليونانيين في النظر إلى كتابي الخطابة Rhetoric والشعر Poetics لأرسطو باعتبارهما جزءًا من الأورغانون أو سلسلة من المقالات المنطقية، ومن هنا عدَّوا الشعر مَلَكَةً أو طريقةً في التعامل مع اللغة دون التقيُّد بمضمون معيَّن. وكما ذكر أو بي هارديسون O.B. Hardison, Jr فإنَّ هذا “التفسير يتجاهل المحاكاة imitation، والقصة plot، والأخلاق characterization، والتطهير catharsis، ومعظم الموضوعات الأخرى التي أكَّد عليها أرسطو، لمصلحة القياس التخييلي imaginative syllogism” الذي تمَّ اعتباره السمة المميزة للشعر (Hardison, MLC, 82)، لكن هذا الرأي وإن أمكنتْ نسبتُه إلى ابن رشد أيضاً، إلا أنَّ ذلك إنما يكون مع شيء من التعديل، كما سنرى الآن.

ونظراً لكون النصِّ الرُّشدي يرد في صورة الشَّرح الذي يتتبَّع، في ظاهر الأمر، الخطوط العامَّة لنص أرسطو، فإنَّه يشتمل على الكثير من التكرار والتفصيل، ومع ذلك فإنَّنا نستطيع أن نُميِّزَ ثلاثة موضوعات عامَّة تطوَّرت على نحو غير مباشر خلال الشرح، وهي موضوعات إنما تتصل لـِمَامًا بالنص اليوناني لأرسطو كما نعرفه اليوم. وعلينا أنْ ندرك في هذا المقام أنَّ النصَّ الرُّشدي مكتوبٌ بالعربية، وجمهوره المباشر ليس الغربيين وإنما العلماء والأدباء العرب، ويظهر أنَّ ابنَ رشد أرادَ من خلاله أنْ ينقلَ إلى القارئ العربي آراء أرسطو علَّها تُحْدِثُ أثرًا في تقاليد الأدب العربي. وبناءً على ذلك، فإنه يمكننا تمييز الأطروحات الثلاثة الآتية: (أ) تعريف الشعر بصورة عامة بأنَّه فنُّ المديح والهجاء استنادًا إلى تمثيلات الاختيار الأخلاقي؛ (ب) الغاية من الشعر هي إحداث تأثير نافع في جمهوره من خلال التجويد سواءً في تقنيات المحاكاة، أو في العناصر الأدائية الأخرى من قبيل اللحن، والإشارة، والنغم؛ (ج) النظر إلى الشعر باعتباره فرعًا عن المنطق، أو نوعًا من الأقاويل المنطقية، التي تتم مقارنتها ومقابلتها بالأقاويل الخطابية.

ومع أنَّ ابنَ رشد يُسْنِدُ هذه الآراء كلَّها إلى أرسطو باعتباره مصدرها، إلا أنَّه في حقيقة الأمر، إنما يطور رؤاه الخاصة التي تتصل بشكل خفيف وعرضي بحجج أرسطو الرئيسة. على سبيل المثال، أطروحة ابن رشد المركزية بأنَّ “كل شعر وكل قول شعري فهو: إما هجاء، وإما مديح” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 56)، هي تطوير لتعليق أرسطو في الفصل الرابع من كتاب الشعر بأنَّ الأشكال الأولى للشعر كانت مدائح لمشاهير الرجال وهجاءً. ويؤكد ابن رشد أنَّ الموضوعات الحقيقية للشعر هي تلك التي تتعاطى مع “الأمور الإرادية، أعني الحسنة والقبيحة” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 57)، ومن ثـَمَّ فإنَّ هذه الموضوعات تُعْنى مباشرة بالفضيلة والرذيلة، ما دام المحاكون والمشبهون “إنما يقصدون من ذلك أنْ يحثُّوا على عمل بعض الأفعال الإرادية، وأن يكفُّوا عن عمل بعضها” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 65).

ومثل أرسطو، يرى ابنُ رشد أنَّ الفضيلة والرذيلة هما محور الأفعال والأخلاق كلها، ثم يحدِّد نوعين من القصيدة يتعلَّق أحدهما بـ”مديح الأفعال الجميلة”، فيما يتعلَّق الآخر بـ”هجاء الأفعال القبيحة”. ويقدم ابن رشد الملحمة epic بوصفها نموذجًا ممتازًا لقصيدة المديح، مستشهدًا في هذا الصدد بثناء أرسطو على هوميروس Homer (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 72). يعتقد ابنُ رشد أنَّ صناعة المديح يجب أنْ تتضمَّن “محاكاةً للعمل الإرادي الفاضل الكامل الذي له قوة كُلِّية في الأمور الفاضلة، لا قوة جزئية في واحد واحد من الأمور الفاضلة”. فقط هذا النوع من المحاكاة ذات التطبيق الكُلِّي يمكنه إثارة انفعالات الرحمة والخوف في النفوس، عبر تحفيز الخيال (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 75). صناعة المديح، على سبيل المثال، ينبغي ألا تحاكي الناسَ أنفسهم “من جهة ما هم أشخاص ناس محسوسون”، وإنما ينبغي أن تحاكيهم من ناحية “عاداتهم” التي تتضمَّن “أفعالهم الحسنة” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 79). ويصرُّ ابنُ رشد على أنَّ الشعر يجب ألا يستحضر اللذَّة لمجرَّد الإعجاب، وإنما يطلب مستوى اللذَّة التي “يُقْصَد بها حصول الالتذاذ بتخييل الفضائل، وهي اللذَّة المناسبة للشعر” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 104-105). وإذاً، كما هو الحال عند أرسطو، فإنَّ الشعرَ يجب أنْ يعبر عن الكُلِّي المشترك بين جميع الناس، وليس عن المتفرد، أو عمَّا يتصل بملابساتهم وأحوالهم.

جانب آخر من دعوى ابن رشد هو أنَّ العملَ الفاضلَ ينبغي أنْ يقوم على الاختيار الأخلاقي moral choice وليس مجرَّد العادة، وكما قال، فإنَّ الأفعال التي يصورها الشاعر يجب أنْ تكونَ صادرةً “عن إرادة وعلم” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 106). وقد حثَّ أرسطو على ضرورة أنْ تكون الأفعال التي يتم تصويرها في المأساة tragedy من قبيل “الجليل”، أي أنْ يكون لها مغزى أخلاقي moral import معتبر. وهكذا أيضاً حثَّ ابنُ رشد على إثارة انفعالات “الرحمة والخوف” ليس من خلال محاكاةِ الأمورِ “اليسيرة والهينة”، وإنما من خلال تمثيل التجارب الصعبة والقاسية “من الرزايا والمصائب” التي تصيب الناس (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 105).

أمَّا فيما يتعلَّقُ بالمحاكاة الشعرية poetic imitation فإنَّ ابن رشد يركز بشكل كبير على الواقعية realism. وبينما يتحدَّثُ أرسطو عن رواية الشاعر لما يجوز وقوعه what is probable، نجد ابنَ رشد يُصرُّ على أنَّ الشاعر إنما يُعْنَى فقط برواية الأمور الصادقة، وأنَّه إنما يتكلَّمُ فقط “في الأمور الموجودة أو الممكنة الوجود” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 89)، فالشاعرُ في واقع الأمر “إنما يضع أسماء لأشياء موجودة”، وتمثيلاتُه مبنيَّةٌ على الأشياء الموجودة في الطبيعة، وليس على “الأمورِ المخترعة الكاذبة”. ومثل أرسطو، ذهب ابنُ رشد إلى أنَّه بقدر ما يتكلَّمُ الشاعرُ في الكُلِّيات، بقدر ما يقتربُ من الفلاسفة. لكنَّ ابن رشد يُصرُّ على أنَّه تمامًا كما أنَّ “المصور الحاذق يصور الشيء بحسب ما هو عليه في الوجود… كذلك يجب أنْ يكونَ الشاعرُ في محاكاتِه يصور كل شيء بحسب ما هو عليه حتى يحاكي الأخلاق وأحوال النفس” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 110). إنَّ تأييدَ أرسطو للواقعية الشعرية poetic realism يُصَاغُ في مصطلحات “الرجحان” probability و”الضرورة” necessity؛ إنها الواقعية التي تختصُّ ليس بتصوير الأشياء وإنما بتمثيل الأفعال، والأحداث، وترابط الأحداث في القصة. في المقابل، يُلحُّ ابنُ رشد على أنَّ “الشاعر الـمُجِيد” ينبغي أنْ “يصف كلَّ شيء على خواصِّه وكُنْهِه” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 128). وهكذا فواقعية أرسطو تقتصر إلى حدِّ كبير على التعبير عن الأحداث التي تشكل المضمون السببي للسلوك الأخلاقي، أمَّا ابن رشد فيوصي بمتابعة أوسع لنوع من الموضوعية الشعرية poetic objectivity التي تبدو حديثة بشكل غريب في إلحاحها على تصوير الأشياء في العالم بدقة؛ وقد مضى إلى الحدِّ الذي اعتبر فيه أنَّ الشعرَ أصدقُ ما يكون عندما يُبْنَى على التجربة المباشرة: فالشاعر، كغيره من الناس، إنما تتأتَّى له الإجادةُ في الوصف بـ”أن يُحصِّل أولاً جميع المعاني التي في الشيء الذي يقصد وصفه” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 125). هذا التأكيدُ على التجربة المباشرة (في مقابل النصوص المقدسة، أو الإسناد، أو القانون، أو العرف، أو التراث) بوصفها أساسَ الفهم أو التمثيل الشعري لم يُصْبِحْ أصلًا فلسفيًا مقبولًا على نحو عام في الغرب إلا مع قيام التجريبية empiricism والعقلانية rationalism؛ ولم يتبوَّأ مكانةً مهمةً في الأدب إلى أنْ ظهر الرومانطيقيون Romantics. وعند النظر إلى مدى تأثير هذه الآراء في الأجيال اللاحقة، نجد أنَّ تأثيرها اقتصر على الغرب، ولم يمتدَّ إلى الغالبية العظمى من مفكري الإسلام وشعرائه.

ومن الواضح أنَّ ابن رشد، على أقل تقدير، يركز بالقدر نفسه كأرسطو على الغرض الأخلاقي ووظيفة الشعر؛ لكنه يركز أيضًا بقدر أكبر على الطبيعة الواقعية للمحاكاة الشعرية، وهذا التركيز ينعكس في الأهمية الكبيرة التي يوليها للعناصر العاطفية للشعر، أي العناصر التي تفضي إلى إيقاع التأثير في الجمهور. بعبارة أخرى، وخلافاً لأرسطو، يرى ابنُ رشد أنَّ هذا النوع من الواقعية أو الطبيعية naturalism يزيد بصورة مباشرة من القوة العاطفية والتخييلية للشعر، ومن ثَمَّ يزيد أيضاً تأثيره الأخلاقي.

ومثل أرسطو، يُرْجِعُ ابنُ رشد اللذَّة التي نُحصِّلُها من الشعر إلى كونِ المحاكاة أمرًا طبيعيًا بالنسبة للكائنات البشرية، وإلى كوننا نلتذُّ ونُسرُّ بمحاكاة الأشياء، ويضيف كما أننا نلتذُّ أيضاً بالوزن والألحان (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 69-70). وقد ميَّز أرسطو بين العناصر الدَّاخلة في صميم الشعر intrinsic من قبيل طريقة المحاكاة، والقصة، والأخلاق، وتلك العناصر التي تُعَدُّ خارجية extrinsic أو متعلِّقة بأداء المسرحية أو القصيدة. ويكرِّرُ ابنُ رشد تمييز أرسطو بين العناصر الداخلية والخارجية للشعر، مستخدمًا هذين العاملين -المحاكاة أو التمثيل، واللحن- بوصفهما أساسًا للتمييز. ويُقرُّ ابنُ رشد عمومًا بأنَّ إجادةَ الشاعرِ في هذين المجالين على السواء ستؤدي إلى التأثير في الجمهور، فالسمات المختلفة للأداء، كما يقول، “تجعل القول أتمَّ محاكاة” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 77). وبعد أنْ يُقَرِّر هذا، نجده يميل إلى الاتفاق مع أرسطو في أنَّ الشاعر الـمُجِيد لا يعتمد على المعينات الأدائية الخارجية، فالأقاويل الشعرية التي تعبر عن الحقيقة بوضوح ليست في حاجة إلى مُحـَسِّناتٍ خارجية (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 130)، وذلك أنَّ صناعة المديح، كما يقول ابنُ رشد، يجب أنْ تُحقِّقَ تأثيرها من خلال التمثيل.

وعلى جهة العموم، يرى ابنُ رشد أنَّ جودةَ النظم الشعري تُستمَدُّ من عاملين: أحدهما الترتيب والثاني المقدار. بالنسبة للأول، فإنَّ الشعر يجب أنْ يتشبَّه بالطبيعة، وذلك بأن يتضمَّن غرضًا واحدًا وغاية واحدة، وأمَّا بالنسبة للثاني، فإنَّ الشعر يجب أيضًا أنْ يكون له، كما سبق لأرسطو أن اقترح، “عِظَمٌ ما محدود” definite magnitude لا هو بالطويل جدًا، ولا بالقصير جدًا بالنسبة لإدراك الجمهور وفهمهم. بهذه الطريقة، تتحصَّلُ للتمثيل ككل وحدةٌ تتشكَّلُ من مبدأ ووسط وآخر (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 85). مثلُ هذا النظم الموحَّد والمرتَّب سيؤدي إلى إنتاج التأثير المرغوب فيه على الجمهور. وينصُّ ابنُ رشد، في صيغة تنبئ على نحو غريب بفكرة تي إس إليوت T.S. Eliot عن “المعادل الموضوعي” objective correlative، على أنَّ “التخييل الفاضل هو الذي لا يتجاوز خواصَّ الشيء وحقيقته”، وذلك عندما يصف الشاعر الأشياء كما هي في الحقيقة (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 128). وكان إليوت قد أشار إلى أنَّ وصف الشاعر لسلسة من الأشياء والأحداث من شأنه أن يفضي إلى إثارة عواطف محدَّدة بدقة؛ ويبدو أنَّ ابن رشد يدرك أيضًا وجود ارتباطٍ داخلي بين التمثيل الشعري والعواطف الإنسانية، يقوم ضمنيًا على تطابق بين العالم “الخارجي” للأشياء والعالم “الداخلي” للإدراك الإنساني.

الأطروحة الثالثة التي تَنْتَظِمُ النصَّ الرُّشدي هي تعامله مع الشعر بوصفه فرعًا عن المنطق، إذْ يبدو أنه يقسم القول عموماً إلى “برهاني” و”غير برهاني” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 104). وغالباً ما نجده يشير إلى الشعر باعتباره “قولًا شعريًا”، مُلمِّحًا بذلك إلى أنَّه بمثابة التفريع على القول، وأنه وإن اختلف بالعرَضِ عن الأنواع الأخرى للقول إلا أنه يتصل بها من حيث الجوهر. ويصف ابن رشد الخطابة rhetoric بأنها “قول مُقْنِع” والشعر بأنه “قول مُحَاكٍ” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 82). وقد مضى إلى حدِّ تعريف الشعر بأنه “تغيير” variation في “القول الحقيقي… أو الجاري مجرى العادة” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 149، 151). وهو يعتمد كمنطلق له في هذه الدعوى على رأي أرسطو بأنَّ الشعر ينبغي أنْ يتوسَّط في توظيف اللغة الاستعارية والمجازية بحيث لا يُفْرِط فيها فيصبح غامضًا بالكُلِّية، ولا يُقصِّر في استعمالها فيخرج عن طريقة الشعر إلى الكلام المتعارَف commonplace speech (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 144). ويقعُ “التغيير” في الشعر من خلال تبديل معاني الكلمات، واستعمال المحسنات، والقافية، والألفاظ الغريبة (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 149، 151). مع ذلك ينظر ابن رشد إلى هذا التغيير باعتباره مقيدًا وخاضعًا للعقل، ويبدو أنَّه يقيس الشعر بمعايير النثر، ويرى الشعر حقًا كالخطابة في كونه نوعًا خاصًا من النثر prose. في الواقع، قد يكون ابنُ رشد هو من أثار، أو على الأقل عزَّز، ميْلَ العصور الوسطى إلى تصنيف الشعر فرعًا من فروع النحو أو الخطابة. لقد أشار إلى أنَّ “القياس نوع من القول، والقول الخطابي نوع، والنظم الشعري نوع آخر”. كما أشار أيضًا إلى أنَّ خواتم الأشعار والقصائد epilogues يجب أن تكون دالَّة بالإجمال على العوائد التي سبق المدح بها، تمامًا “كالحال في خواتم الخطب” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 110). وفي إحدى المرَّات التي يَعْدِلُ فيها بالكلية عن شرح أرسطو للعناصر الكمَّية للمأساة (والتي يستخدمها هو مجرَّد نقطة انطلاق)، نجده يُقسِّم الأشعارَ العربية إلى الجزء الذي يجري مجرى “الصدر في الخطبة” rhetorical exordium، والمدح نفسه، والجزء الذي يجري مجرى “الخاتمة في الخطبة” rhetorical conclusion (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 98-99). ومن المثير للاهتمام في وصف ابن رشد هنا لشكل القصيدة العربية أنَّ هذا التوصيف يستدعي بعض تقسيمات القول الخطابي، ويتعامل مع الشعر باعتباره قولًا منطقيًا logical statement.

ونظراً لكون ابن رشد يحثُّ الشاعرَ على التعبير عن الحقائق، ويرى أنَّ للشعر تأثيرًا مُقْنِعًا من الناحية الأخلاقية، فإنَّه من الواضح أنَّ الشعر ينهض عنده ببعض الوظائف الخاصة بالفلسفة والمنطق والخطابة. ويُعرِّف ابنُ رشد “الأسلوب الملائم” decorous style بأنه الذي يُعْتنَى فيه بـ”إيراد الألفاظ البينة الدلالة وهي التي تدل على أشياء بأعيانها” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 158). ومن المثير للاهتمام أنَّه عندما يكون “التغيير” الشعري للغة شديد البروز، باستخدام الصور المجازية الممتازة، فإنَّ الغاية من ذلك هي تحقيق فهم أكثر اكتمالاً للأشياء التي يتم تمثيلها (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 152-153). ومن هنا يُعْهَد إلى الشعر بالغايات المتعلقة بالإقناع وتعزيز الإفهام عبر استعمال قولٍ واضحٍ مفارقٍ بالحد الأدنى -عقليًا ومن حيث التغيير- للقول العادي. ولا يقتصر ابنُ رشد على التنظيم المحكم لأوجه الخروج عن القول العادي في إطار مسعاه العام لمنع استعمال الاستعارات والأشكال البلاغية الغريبة، وإنما ينصُّ أيضًا على ستة أغلاط أساسية يجب على الشاعر تحاشي الوقوع فيها، وهي: المحاكاة بالممتنع، وتحريف المحاكاة، ومحاكاة الناطقين بأشياء غير ناطقة، وتشبيه الشيء بضده، واستخدام الألفاظ ذات المعاني المبهمة، واللجوء إلى الإقناع الخطابي بدلًا من المحاكاة الشعرية (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 158-161).

والغاية من جميع هذه المحظورات هي توجيه الشاعر نحو الواقعية والوضوح في التعبير عن الحقيقة: فالقول الشعري، وإن كان يُذْكَر في مقابل القول الخطابي، إلا أنَّه يشترك معه في ذات الأساس، كما أنَّه جزء من العائلة الكاملة للأقاويل. وقد يكون تأكيدُ ابن رشد على الحقيقة مستمدًا جزئيًا من حقيقة أنَّه، كغيره من مفكري الإسلام، يعتبر القرآنَ النصَّ النموذجي archetypal text، فالقرآن عنده بمثابة النص الاستثنائي في الأدب العربي من حيث “مدح الأفعال الفاضلة وذمِّ الأفعال غير الفاضلة”، وهو، كما يقول، يحرِّمُ “التخييلات الشعرية” باستثناء تلك التي تميلُ إلى ذمِّ النقائص ومدح الأفعال الفاضلة (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 123). وحتى عندما يستخدمُ القرآن تغييرات شديدة البروز بالنسبة للقول العادي، فإنَّ الهدفَ من ذلك ليس إضفاءَ تأثيراتٍ تحسينية، وإنما تحقيق “فهم أكثر اكتمالاً” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 153). وفي تكافؤ لافت مع معظم شعريات العصور الوسطى، يمكن القول إنَّ آراء ابن رشد تعتمد النص المقدس أساساً لها: تمامًا كما تم تبجيل فيرجل Vergil والكتاب المقدس the Bible بوصفهما نصَّين موثوقين (أسلوبيًا، ونحويًا، وأيضًا في مضامينهما)، كذلك يُسْتَدْعَى القرآن عند ابن رشد باعتباره نموذجًا أدبيًا.

ومن هنا تبدو أطروحات ابن رشد نموذجًا للتنظيرات المدرسية scholastic التي تعدُّ الشعرَ شكلًا من أشكال القول ضمن تراتبية هرمية للأقاويل، يرد اللاهوتُ theology في قمتها. وخلافًا للعديد من المفكرين المدرسيين الهامشيين الذين اعتبروا الشعر واحدًا من أدنى الأقاويل المنطقية منزلة، يمنحُ ابنُ رشد الشعرَ على الأقل وظيفةً أخلاقية مهمة (كما فعل أيضًا إلى حدٍ ما توما الأكويني)، لكن على عكس الأكويني فإنَّ ابنَ رشد يمنحُ الشعرَ أيضًا وظيفة معرفية epistemological، وفي الواقع فإنَّ هاتين الوظيفتين وثيقتا الصلة ببعضهما عنده.

لكن ما الذي استقاه مفكرو وأدباء العصور الوسطى وعصر النهضة من هذا النَّص الرشدي؟ بالتأكيد التشديد على الوظيفة الأخلاقية وقيمة الحقيقة في الشعر، ومن الناحية الشكلية التأكيد على نظم شعري موحَّد، وحاجة الشعر إلى إحداث تأثير قوي في جمهوره. أيضًا، ربما يكون هؤلاء المفكرون والأدباء قد صادفوا عند ابن رشد فكرة الشعر باعتباره قولًا متصلًا على نحو وثيق بالأقاويل الأخرى، ومتداخلًا إلى حدٍ كبيرٍ مع الخطابة والمنطق. وقد يكون ابنُ رشد في جميع هذه الجوانب -وهي مسألة لا تزالُ محلَّ بحث ونقاش بين العلماء- إنما يعزِّزُ أو يؤكد اتجاهاتٍ قائمة بالفعل أو منسجمة مع تفكير العصور الوسطى. على سبيل المثال، يخفق ابنُ رشد في التمييز بين الدراما drama والسرد narrative، وبين المأساة والملحمة، وهو خلط نجده أيضاً عند أدباء مثل دانتي Dante وتشوسر Chaucer (Hardison, MLC, 85). أضف إلى ذلك، أنَّ القراء ربما وجدوا في النص الرشدي وصفًا غير أرسطي إلى حدٍ كبير لمكونات المأساة، فبينما يصر أرسطو على أنَّ القصة هي العنصر الأهمُّ وأنَّ الفعل يتقدَّم الأخلاق، نجد ابن رشد، الذي يقدم المأساة والملحمة باعتبارهما مدائح، يعدُّ العنصر الأهم هو “العادات والمعتقدات”. ويصف ابن رشد القصة بأنها “الخرافة التي تكون بالتشبيه والمحاكاة” (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 78). ومتى سعى القارئ إلى البحث عند ابن رشد عن توصيف أرسطو لـ”الانقلاب” reversal و”التعرُّف” recognition لم يعُدْ بطائل، على الرغم من أنه سيصادف الفكرة التي تقول إنَّ الرحمة والخوف إنما يتم الإيحاء بهما من خلال ذكر حدوث الشقاوة بمن لا يستحق (تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، ص 101).

وعلى الرغم من هذه التبديلات الشديدة أحيانًا في آراء أرسطو، فقد كان هذا النصُّ الرُّشدي واسعَ التأثير، وقد قوبل بالاستحسان من شخصيات مثل روجر بيكون Roger Bacon، كما استخدمه النقاد على نطاق واسع مثل بنفنوتو دا إيمولا Benvenuto da Imola شارح دانتي في القرن الرابع عشر، الذي نظر إلى كوميديا دانتي بوصفها عملًا قائمًا في الأساس على المدح والهجاء. كما أثَّر النصُّ الرشدي أيضاً في تلميذ بترارك ذي النزعة الإنسانية كولوتشيو سالوتاتي Coluccio Salutati الذي انتفع بمبدأ المدح والهجاء، وتعريف ابن رشد للمحاكاة. ويمكن تتبُّع نفوذ النص الرُّشدي في القرن السادس عشر عند أدباء مثل سافونارولا Savonarola وروبورتيللو Robortello ومازوني Mazzoni الذين آمنوا جميعًا بأنَّ الشعرَ هو بدرجة ما فرعٌ عن المنطق، مستشهدين بابن رشد في دعم هذا الموقف. وكما لاحظ هارديسون، فإنَّه طيلة القرن السادس عشر تعايشت نظرية الشعر التعليمي didactic poetry على نحو متوتر مع المبادئ الأرسطية. وقد كانت النسخة الرشدية لآراء أرسطو منسجمة مع النزعات الأخلاقية للإنسانيين humanists. وبلغ التوتُّرُ بين هذين الاتجاهين النقديين حدَّ المعارضة الصريحة في عمل لودوفيكو كاستلفيترو Lodovico Castelvetro الذي وإن كان تفسيره لكتاب الشعر لأرسطو محرَّفًا إلى حدٍ كبير، إلا أنَّه كان بمعزل عن تأثير ابن رشد. لقد كان كاستلفيترو معارضًا بشدة لمعاصره ذي النزعة الإنسانية توركواتو تاسـّـو Torquato Tasso الذي انحاز، في تصوراته للشعر البطولي باعتباره مدحًا للفضيلة، إلى القديس باسيليوس St. Basil وبلوتارخ Plutarch وابن رشد وأرسطو (Hardison, MLC, 88). ومن المفارقة، أنه نظرًا إلى مزيج معقَّد من الظروف التاريخية، فقد أُعطيتْ نسخة ابن رشد من أرسطو لفترة طويلة من الزمن مصداقيةً أكبر من آراء أرسطو نفسه.

 

ملاحظة من المترجم: اعتمد المترجم على هذه الطبعة من كتاب تلخيص الشعر لتوثيق ومطابقة الاقتباسات التي نقلها الكاتب من ابن رشد:

أبو الوليد ابن رشد، تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، تحقيق وتعليق: الدكتور محمد سليم سالم (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1971).

أما الكاتب فقد اعتمد على هذه الترجمة الإنكليزية للنصين الأرسطي والرُّشدي:

Aristotle’s Poetics: A Translation and Commentary for Students of Literature (Florida Atlantic University Books) translated by: Leon Golden. Commentary by: O.B. Hardison, Jr

المصدر

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى